السيدة الليدي آن بلنت Lady Anne Blunt سيدة إنجليزية من أسرة نبيلة، كانت محبة للأسفار والرحلات، كما كان لديها ميل للحياة الشرقية والعربية على وجه الخصوص، إذ أسست في لندن عام 1872 مزرعة لتربية الخيول العربية الأصيلة، وكان ذلك أحد مؤشرات اهتمامها بالحياة العربية، ودافعاً لها أيضاً لتقوم برحلات عديدة، إلى مصر والعراق وإلى حائل.
وكانت رحلتها إلى حائل، برفقة زوجها ويلفريد سكوين بلنت، قد بدأت أواخر عام 1879 عبر الجوف والنفود الكبير، حتى دخلت مدينة حائل صباح يوم 24 فبراير 1880، وكان حاكم حائل آنذاك هو الأمير محمد العبدالله الرشيد، الذي تولى الحكم عام 1871 حتى توفي عام 1897 وفي عهده تم ضم الرياض وجنوب شرق الجزيرة العربية وكذلك الشمال الشرقي والغربي للجزيرة. وهنا نعرض مقتطفات من الفصل العاشر من المجلد الأول (القسم الخامس في الطبعة العربية) من كتاب المؤلفة : الحج إلى نجد (رحلة إلى بلاد نجد في الطبعة العربية) وعنوانه : في بلاط إبن رشيد :
" كان إستقبالنا في قصر الأمير (قصر برزان)، هو ما تمنيناه. وحين أقبلنا نحو باحة القصر، قابلنا حوالي عشرين رجلاً حسني الهندام، وكان في وسطهم يقف رجل مهيب، في ملابس قرمزية، له لحية في بياض الثلج، وعلمنا فيما بعد أنهم من الرجال العاملين في القصر، وأن الشيخ المهيب الذي كان معهم هو المرافق الخاص للأمير. مررنا خلال سرداب يبدو أنه شيّد بغرض الدفاع، ثم انحدرنا إلى ممر تقوم على جوانبه أعمدة تذكر الإنسان بمدخل معبد مصري قديم، ونقر أحد الخدم على باب منخفض، ثم فتح الباب ووجدنا أنفسنا في غرفة الإستقبال. وبدت أنيقة في إتساعها الذي يبلغ 70 × 30 قدم (21 × 9 متر) وبصفٍ من السواري الخمس، وتضيئها فتحات قريبة من السطح، ودعينا إلى الجلوس وتبودلت كلمات لطيفة وتردد السؤال عن صحتنا أكثر من عشرين مرة، ودار الحديث مع القهوة، ثم وقف الجميع ومرّت عبارة : "الأمير قادم"، ووقفنا نحن أيضاً، فدخل الأمير على رأس مجموعة من المعاونين، فسلمنا على الأمير وأبدى سروره لمجيئنا".
" للأمير وجه غريب، وقد يكون شعورنا مجرد وهم، لكن ملامحه أعادت إلى ذاكرتنا صورة (ريتشارد الثالث) وجه نحيل، ووجنات شاحبة غائرة، وشفتان دقيقتان، مع تعبير عن الألم، إلا حينما يبتسم، وعوارض سوداء خفيفة، وحاجبان معقودان أسودان، وعينان رائعتان، عميقتان ونفاذتان... ويداه أيضاً طويلتان يشبهان مخلبين، ولا تستقران لـ لحظة، تعبثان بسبحته، أو بأهداب عباءته حينما يتحدث. وبكل هذا بدا الأمير، متميزاً في مظهره، وكل جزء منه يعبّر عن ملك".
" وبعد حوالي ربع ساعة، قام الأمير، ثم جاءت منه رسالة يرجونا فيها أن نحضر مجلسه، وهو مجلس الحكم الذي يعقده يومياً في بهو القصر. وفي البهو ومساحته 100 × 50 قدم (30 × 15 متر) أنتظم جنود في صفين من جميع جهاته، وأستطعت أن أعد إلى الـ 800 منهم. وجلس الأمير على مقعد مرتفع، يحيط به وزرائه وأصدقاءه وأقاربه، وبالذات إبن عمه الأمير حمود (حمود العبيد الرشيد، نائب الأمير محمد)، الذي يصاحبه في كل مكان يذهب إليه، وخادمه المفضل مبارك الذي من واجبه حراسة الأمير من المغتالين، والخطر على حياة الأمير محمد هو بسبب فتوحاته وغزواته التي قُتل فيها أعداء كثيرون، لا بسبب مركزه، فهو كأمير، محبوب من قبل رعاياه.
ويتقدم الوزراء والمسؤولين بخطاباتهم ليختمها الأمير، فيما يتولى حمود قراءة خطابات عرائض البدو القادمين من خارج المدينة وشكاويهم، قبل أن ينظر فيها محمد. ولاحظت أن الأمراء والمسؤولين ورجال البلاط يخاطبون محمداً بقلب الأمير، بينما بعض الفقراء والبدو يخاطبونه بإسمه المجرّد، ويتقدم أيضاً بعض الحجاج الذين لهم مظالم، وينظر في قضاياهم بإختصار، ولم تستغرق أي قضية في مجلس الحكم أكثر من ثلاث دقائق".
" أعدّ لنا بيت مزودج في الشارع الرئيسي، على بعد لا يزيد عن 200 متر عن القصر (برزان)، كان كل شيء بسيطاً، لكنه في غاية الأناقة والنظافة، وأحسسنا أخيراً بعد عناء الرحلة بالراحة.
استدعانا الأمير محمد، بعد ساعات، وكان الإستقبال خالصاً هذه المرة في الحجرة العليا في القصر، ولم يكن مع الأمير سوى حمود فقط. وكنا قد أحضرنا هدايا للأمير، وشعرنا بالخجل ونحن نقدمها لتفاهتها، إذ لم يكن لدينا مفهوم عن المركز الحقيقي لإبن رشيد، ونحن في دمشق.
نهض الأمير للصلاة (ربما العصر)، وبعد أن عاد إقترح أن يرينا حديقته. وسرنا في ممرات وباحات وعبر أبواب، حتى وصلنا إلى بستان نخيل، وهنا انضم إلينا بعض الخدم من السود والبيض، وكان هناك عدد من الغزلان، وزوج من الوعل، وكان أكثر ما يجذب الإنتباه في الحديقة ثلاث بقرات وحشية من النفود. ثم قادنا الأمير خلال باب منخفض إلى حديقة أخرى، حيث توجد أشجار الليمون والترنج والرمان. ثم إنحدرنا ونحن بمعيّة الأمير من خلال ممر منخفض، لنجد أنفسنا في إسطبل مملوء بالخيل، وكل مربوط إلى مذود. ويحتوي هذا الإسطبل على تسعة عشر فرساً، وخلفه إسطبل آخر يحتوي نفس العدد، وثالث فيه ثمانية خيول، وخلفه آخر في بين ثلاثين وأربعين مهراً.
أما في المطبخ فقد رأينا قدور القصر وأوانيه، ومنها سبعة قدور هائلة، يمكن لكل منها أن يتسع لثلاثة جمال، أو 12 خروفاً، وعدد منها كانت بالفعل في حالة استعمال، لأن الأمير ابن رشيد يستقبل يومياً 2000 ضيف، إلى جانب العاملين في القصر. وقائمة الطعام اليومي تتكون من أربعين خروفاً أو سبعة جمال. وعندما خرجنا وجدنا العديد من الطاعمين يتجمعون، وكل غريب في حائل له محله على مائدة الأمير، وعند الغروب يبدأ بهو القصر بالإمتلاء".
" توطدت صداقتنا أيضاً مع الأمير حمود وعائلته، وهو رجل يوحي بالثقة من البداية، ويساند الأمير سياسياً ويخدمه بإخلاص كأخ. وصفاته ممتازة كصفات أي رجل يمكن أن يوجد في العالم، وإلى جانب ذلك فهو ذكي ومطلع.. وإني أتخيل أنه يقف بالنسبة إلى ابن عمه الأمير محمد، إلى حد ما، في المركز الذي يقف فيه مورني بالنسبة إلى لويس نابليون، إلا أن مورني لم يكن رجلاً طيباً ولا سيداً رفيعاً كـ حمود. إن حمود يقدم النصيحة للأمير، ويبدي رأيه بصراحة. ولحمود عدة أبناء، أكبرهم ماجد في السادسة عشرة من عمره ويحوز كل سحر طباع أبيه، وله إلى جانب ذلك جاذبية الشباب الودود، والجمال المثالي".
" إستأذنت من الأمير محمد في زيارة زوجاته، وبعث من يخبر السيدات أن يتهيأن لإستقبالي، ومر وقت طويل قبل أن يعود الرسول بالجواب، وفي مناسبة كهذه تتفنن السيدات في زينتهن ويستغرقن وقتاً طويلاً لذلك. وعمشا هي الزوجة الأولى للأمير ويمكن أن تميزها بين كل النساء الأخريات، فلها مظهر ممتاز، وطباع تكشف عنها في أي مكان كانت، وحقا لقد غطّت على كل من عداها. هي إبنة عبيد وأخت حمود، ولها كل الحق في أن يكسف نورها نور صديقاتها، وقريباتها وضرّاتها. وكانت لولوة و دوشة الزوجتين الأخريتين، ترتديان ثياباً موشاة بالذهب مثل ثيابها، وعليهما نفس الزينة التي عليها، ولكن عمشا إلى جانب ذلك كانت ذكية ومسلية، وقادرة إلى أن تجعل الحديث متصلاً، بينما قل أن غامرت لولوة أو دوشة في الإشتراك فيه. وتتقاسم عمشا ولولوة إمتياز عدم مغادرة المدينة، وبذلك تتقدمان على دوشة التي يقع على عاتقها أن تتبع خط زوجها في الصحراء حيث يقضي جزءاً من السنة، وإلتزام كهذا يُعتبر حطاً للكرامة وبالتالي لا تتقبله سيدات حائل.
وأثناء بقائي معهن، جاء الأمير محمد مرتين، وفي كل مرة يأتي فيها، تقف له جميع زوجاته وجميع النساء الحاضرات، بإستثناء عمشا، فهي تبدي إنحناءة أو إشارة كما أنها لو كانت على وشك النهوض ثم تظل في مكانها بجانبي".
" ومن بيت عمشا، ذهبت إلى بيت زوجة الأمير حمود وهي بنية بنت متعب العبدالله الرشيد، ورأيت عندها أختها رقية، وزوجة ماجد الحمود (صيتة). وللأمير حمود زوجة ثانية هي زهوة بنت طلال العبدالله الرشيد، وكانت جذابة ولطيفة وذكية ونحيفة. أما أم ماجد التي لم أسمع عنها فقد ماتت منذ سنين.
وزرت بعدها زوجة الأمير سليمان (سليمان العبيد الرشيد شقيق حمود) وكنت عرفت سليمان في البلاط، وهو يحب الكتب، ووجدته غارقاً بينها في غرفة الإستقبال عندما ذهبت لزيارة زوجته، وكنت آمل أن محادثته ستكون مفيدة، لولا أنه وبمجرد ما بدأ الحديث، دخلت زوجته يتبعها جمهور من النساء فجمع كتبه ومخططوطاته وخرج مسرعاً".
" كل مساء، كنا متعودين أن نتلقى دعوة من الأمير محمد لنقضي المساء في مجلسه، وكان هذا دائماً أجمل جزء من اليوم، لأننا نجد بعض الزوار الذين يثيرون الإهتمام، فتدور أحاديث شيّقة. وذات مساء كان الأمير في غاية الإنشراح عندما تلقى نبأ انتصار كتيبة من قواته على سطام الشعلان، ورغم أن قوات سطام كانت أكثر عدداً، لم يستغرب أحد أن ينتصر الجانب الأضعف. ولما سألني الأمير إن كنت أظن أن لـ سطام عقل ؟ أجبته بأنني أخشى أنه ليس له نصيب كبير منه إلا أنني آسفة من أجله، وأنه ضعيف ولا يعرف كيف يدير قومه ولكن له قلباً طيباً. فسألني وما رأيك في إبن سميّر؟ فأجبت : إنه له من العقل أكثر مما له قلب، فسرّ الأمير وقال : آه يا خاتون، أنتِ التي لكِ عقل".
.
الليدي آن بلنت بالملابس العربية مع فرسها الحائلية "قصيدة".