مائدة الرحمن..
هو الاسم الذى أطلقه المصريون على ذلك العمل التكافلى الذى صار طقساً
رمضانياً للغاية، وعلى الرغم من أن كلمة «مائدة» غريبة على العامية
المصرية التى تفضل أسماء مثل «سُفرة» أو «ترابيزة»
إلا أنه يبدو أن مبتكر هذا الطقس قد استعان به من سورة المائدة الآيات١١٢-١١٥
«إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ
السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ
عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً
مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ
(١١٤) قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَابًا
لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (١١٥)»
وتم اختيار اسم «الرحمن»
من أسماء الله الـ٩٩ لتأكيد أن هذا الاسم يحض على التراحم بين المسلمين
وقد انتشرت موائد الرحمن فى مصر فى السنوات الـ١٥ الأخيرة
وصارت متنفساً للفقراء يتناولون فيها طعامهم، وصارت ساحة تنافس
محببة بين الأغنياء لتقديم ما لذ وطاب فى موائدهم، وهو تماماً ما قصده
وأراده / أحمد بن طولون /
عندما أقام أول مائدة رحمن فى مصر فى السنة الرابعة لولايته
حيث جمع القواد والتجار والأعيان على مائدة حافلة فى أول أيام رمضان
وخطب فيهم
«إننى لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا
أعلم أنكم لستم فى حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، لكننى وجدتكم
قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم فى رمضان، ولذلك
فإننى آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه
لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم»
وأخبرهم ابن طولون بأن هذه المائدة ستستمر طوال أيام الشهر الكريم.
ومع مرور الزمن اختفى طقس البر، كعادة الإنسان أن يكون ظلوماً جهولاً
حتى عاد الخليفة الفاطمى المعز لدين الله، وأقام مائدة فى شهر رمضان يفطر
عليها أهل جامع عمرو بن العاص وكان يخرج من قصره ١١٠٠ قدر
من جميع ألوان الطعام لتوزع على الفقراء، وسميت «دار الفطرة»
ووصل طول بعضها إلى ١٧٥ متراً، ثم اكتفى المصريون فى العهد المملوكى
ببعض المظاهر البسيطة التى لا تصل إلى ما سمى بعد ذلك «مائدة رحمن»،
التى بدأت فى العودة مرة أخرى فى القرن العشرين تحت رعاية حكومية
لبنك ناصر الاجتماعى
الذى كان يقيم مائدة بجوار الجامع الأزهر، يفطر عليها أربعة آلاف صائم
لكن مع الانفتاح الاقتصادى فى منتصف السبعينيات تراجعت موائد الرحمن، لتبقى نوعاً من التكافل البسيط بين أسر معينة، حتى عادت مرة أخرى مع زيادة المد الإسلامى مع عودة المصريين من العمل فى الخليج، وبدأت المساجد أيضاً فى إعداد موائد الرحمن الخاصة بها، وتنافس الأشخاص فى معاونة المساجد، بينما كان الأكثر ثراءً يعدون موائدهم وحدهم. وقد أصدرت جامعة الأزهر دراسة عن موائد الرحمن فى مصر، جاء فيها أن موائد الرحمن فى القاهرة بلغ عددها ٢١ ألف مائدة، أنفق أصحابها ما يقرب من مليار جنيه عليها، بينما قارب العدد فى باقى محافظات مصر بالكامل العدد ذاته بنفس تكلفة المليار جنيه، وأكدت دراسة الأزهر أن المستفيدين من هذه الموائد بلغ عددهم ٣ ملايين مواطن تقريباً.
ومن ثم انتشرت هذه الظاهرة الخيرية على نطاق واسع في جميع البلاد العربية والإسلامية
وأصبح للموائد تصنيف يشبه تصنيف الفنادق، حيث احتلت الأحياء الشعبية موائد «نجمة» واحدة، أو «نجمتين»، تقدم فيها السلاكة والشوربة، والأرز والقليل من اللحم، مع التمر المنقوع فى الماء، بينما أقامت معظم المساجد موائد تصل إلى «٣ نجوم»شابه.